[center]الهجرة
السعودية , بريطانيا , رومانيا , والسويد , هي محطات أتخذها كل من فائز وحيدر وبشار ومحمد على التوالي لتكون مقرا لهم بعيدا عن
العراق . كان هؤلاء أصدقاءا لي في أيام الدراسة في كلية الطب . كنا نروح ونجيء سوية , كنا نقضي معظم ساعات الدوام في الكلية
سوية . قد تختلف أفكارنا وأتجاهاتنا عن بعضنا البعض , فهذا مرح وذاك كئيب , هذا ملتزم دينيا وذلك يأخذ أمور الحياة بطريقة أكثر
سهولة , هذا فوضوي وذاك هاديء , وهكذا , ولكننا تمكنا أن نكون مجموعة لطيفة أستطعنا بها أن نتجاوز كل ما يداهمنا من عقبات
خلال سنين الدراسة الست الصعبة , وكان أحدنا يهون الأمور على الآخر , نساعد بعضنا البعض , نقدم المشورة لمن يحتاجها منا , وتبقى
لدينا فسحات من الوقت يستغلها بعضنا بالقاء الشعر على مسامعنا , وذاك يطرح الطرفة تلو الطرفة , وذاك يحكي لنا عما جرى له من
حوادث غريبة , وبين الفينة والأخرى نتطرق الى أمور السياسة والدين وصعوبات الحياة .
كان التخرج من الكلية هو مفترق الطرق لنا جميعا , ومن هنا بدأت فكرة السفر والهجرة تداعب خيالاتنا , فما مر علينا من هموم ومشاكل
داخل هذا البلد ليست بالقليلة , سنين الحرب والحصار والمعاناة كانت قد ألقت بآثارها علينا وعلى جميع العراقيين , وما حل بالبلد بعدها
من حرب جديدة واحتلال بغيض قد زاد الطين بلة .
أول الذين سافروا هو فائز , هو ليس عراقيا أصلا , بل هو سوري الجنسية , كانت عائلته قد هاجرت سلفا من سوريا بعد أحداث مجزرة تدمر واستقروا في السعودية , كان والد فائز يحث أولاده على التوجه الى العراق لأكمال الدراسة الجامعية هناك , وتخرج على أثر ذلك خمسة من أولاده من كليات الطب العراقية ومنهم صديقي فائز . الذي ما أن أكمل سني الدراسة الست حتى بدأ التحضير للعودة الى أهله في السعودية ليكمل مشوار الطب هناك . أعترف أني قد تعلمت منه الكثير , تعلمت منه كيف أن أتصرف مع جل أموري بهدوء و روية , تعلمت منه أن أنظر الى أمور الحياة بمنظار التفكير بالقادم من الأيام وليس بمنظار اليوم الواحد فقط . هو شخص طيب حنون ملتزم دينيا كريم النفس ولا يبدر منه ما قد يثير الحنق أو الغضب للغير أبدا . كان يحب أن يقرأ الشعر ويطلع على كل ما هو جديد من روايات عبد الرحمن منيف . خسرته , لم أعد أسمع عنه شيئا , ومنذ أن حط رحله في السعودية , لم يأتني من أخباره شيء سوى رسالتين , الاولى جاءت عبر صديقنا حيدر عن طريق شقيق فائز الذي كان لا يزال يدرس هنا في بغداد وقتها في كلية الطب , عبر فيها فائز عن اشتياقه لنا ورغبته في أن يرانا من جديد , وبعث مع رسالته هذه هدايا بسيطة لي ولحيدر , أما الرسالة الثانية فقد جاءت عبر صديقنا بشار بعد ست سنوات من الأولى عبر البريد الالكتروني يخبرنا فيها أنه قد تزوج ورزق بولد وأنه يعمل حاليا طبيبا ممارسا في مكة . كان هذا قبل سنتين , ولا جديد منه بعد ذلك قط .
وصل حيدر الى لندن سنة 1999 , كانت هذه أمنيته التي يحدثني عنها منذ أن كنا في فترة الدراسة الجامعية , كان حينها يتوق لأن يحصل على طريقة يتواصل بها مع عمه الطبيب المقيم هناك في لندن لأكثر من عشرين سنة مضين , كان يكثر من مراسلاته ومكالماته الهاتفية مع عمه هذا بعد التخرج , وقد ساهم العم من جانبه في تقديم الدعم المادي اللازم لكي يصل حيدر الى لندن , ومنذ تلك الفترة الى حد وقت قريب لم يستطع حيدر أن يحصل على عمل مناسب أو دراسة عليا , فهو لم يستطع الحصول على وثيقة تخرجه من الكلية بالاضافة الى عقبات أخرى تقف في طريقه قد يعرفها المغترب أكثر مني . منذ أن ذهب هناك وأنا لم أعرف الا النزر البسيط من أخباره , الى أن جاءني يوما أحد الأصدقاء ليخبرني أن حيدرا هنا في بغداد في زيارة لعائلته , كان هذا عام 2003 بعد الاحتلال . أتفقنا أنا وصديقي هذا أن نذهب سوية لزيارة حيدر في بيته . طرقنا الباب , وخرج حيدر بنفسه ........ , كانت ملامحه قد تغيرت , فلم يعد هناك ذلك ( الكرش ) الكبير الذي يتقدمه دائما ويحد من حركته , نحل قليلا وغير من نمط لحيته وتصفيفة شعره , تقدم ليصافحني ويقبلني ويعانقني , أتذكر أن عناقه لي قد طال بعض الوقت , فهو لم يكن عناقا لجسد طلال , لا ....... , لقد كان عناقا لذكريات جميلة مضين , عناقا للحظات حلوة عاشها معي ومع أصدقاءه , عناقا لأمور كثيرة قد أفتقدها هناك في مدينة الضباب , ضمني اليه ليضم بذلك أياما جميلة من عمره , هو يعرف أنها لن تعود . أدخلنا بيته وبدأ يحدثنا عما عاناه هناك من مصاعب وعما لاقاه من عقبات , لكن في نفس الوقت يخبرنا بامكانية الحصول على مبتغاه وان طال الوقت به . بعد ثلاث ساعات من الحديث ودعناه على أمل أن نلتقي به مرة ثانية في يوم آخر , لكن لم تحن الفرصة لنا , سافر مسرعا تاركا هدية بسيطة لي للذكرى وتاركا في بيته أبا وأما مسنين . بدأنا نتواصل منذ ذلك الوقت مع بعضنا عبر الميسنجر من فترة لأخرى , هو يحكي لي عن مصاعب الحصول على عمل هناك , وأنا أحكي له عن مصاعب الحياة هنا !!!! . وفي أواخر السنة الماضية علمت أنه قد حصل أخيرا على درجة الماجستير في احدى فروع الطب الاساسية , ومنذ ذلك الحين أخبر والديه بأنه لن يعود الى العراق مجددا .
[strike]قابلت بشار بعد الحرب والاحتلال بسنة تقريبا , كان قد أنهى فترة التدرج الطبي الخاصة به , لم تتغير طباعه أبدا , فهو لا زال ذلك الشاب المتردد والمتخوف من الاقدام على خطوات سريعة ايجابية تخص امور مستقبله , ولا يزال يحتفظ بحس الفكاهة والمرح بنفس الوقت . كان على وشك أن يبدأ عمله كطبيب تخدير , ولكن منذ تلك المقابلة وأنا لم أعد أسمع عنه من جديد . قبل سنتين فقط رأيت طلبا لأضافته على قائمة الميسنجر خاصتي , وبعد اللقاء والسلام عرفت أنه حصل على ايميلي من خلال صديقنا حيدر . أين انت يا بشار الآن ؟ , سألته , كانت اجابته غير متوقعة بالنسبة لي , أخبرني أنه في رومانيا وبدأ بدراسة الاختصاص في أحد فروع الطب هناك . لم أكن أتوقع أنه سيتخذ هكذا خطوات , سفر , أقامة ودراسة , كل ذلك بعيدا عن الاهل والاصدقاء , لكنه فعلها أخيرا . أخذنا بعدها نتحاور بين فترة وأخرى عبر الميسنجر , ولكن توقفنا فجأة بعد أن غضب علي لأني قد أتهمت أحد أعضاء مجلس النواب بأنه يأوي المجرمين والارهابيين في بيته ويقدم لهم الدعم والمساعدة في بعض الاحيان , أعتبرني متحزبا لجهة على حساب جهة أخرى , ظللت أشرح له مرارا بأنه لا يستطيع أن يعرف خفايا الامور وهو هناك مثلما يعرفها من هو بداخل البلد . بقي هو غاضبا وبقيت أنا متأسفا لشكوكه تلك , ومن هنا اختلفنا , ومن هنا افترقنا .
يتبع لاحقا
[color=red]الابراهيمي